"مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع" ليس للسيوطي

"مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع" ليس للسيوطي

من المؤلفات الخالدة كتاب "معجم البلدان" لياقوت الحموي، وشهرتُه تغني عن وصفهِ والكلام عليه.

وله مقدمةٌ مهمةٌ ممتعةٌ، وممّا جاء فيها كراهتُه أن يُختصر وأن يُتصرف فيه، وتحذيرُه من ذلك[1]، ولكن اثنين من العلماء لم يلتفتا إلى ذلك:

فاختصره الشيخُ عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي الحنبلي (ت: 739هـ)، ثم السيوطي (ت: 911هـ).

• • •

مختصر البغدادي:

قال في مقدمته:

"الحمد لله على ما تواتر من آلائه.

وبعدُ:

فإنَّ الغرض مِنْ وضع الكتب إنما هو بيانُ علمٍ مقصود به، فلذلك لا ينبغي أن يُخلط به غيره ممّا يُبيَّن في علمٍ آخر، لئلا يتشعب الفهم، وينبو عنه السمع، ويطول الكلام فيه فيؤدي إلى الإملال في سماعه. وهذه حالُ الكتاب المسمّى بـ(معجم البلدان).

فإن الغرض المقصود منه إنما هو معرفة أسماء الأماكن والبقاع التي على الربع المسكون من الأرض، ممّا ورد به خبر، أو جاء في شعر، وبيان جهته من الأرض وموضعه من أصقاعها، فما زاد على هذا القدر فهو فضلٌ لا حاجة إليه.

وفي البلدان أسماء أعجمية يُعلم قطعًا أنها ليست مشتقة اشتقاق العربية، فلم يبق إلا اشتقاق اللفظ لا بالنسبة إلى ما سمِّي به، وذلك علمٌ برأسه تشتمل كتبُ اللغة، وكتب الأبنية عليه، فخلطُه بهذا تطويلٌ لا حاجة إليه.

وكذلك ما ذكره من طوالع البلدان فأكثره لا يصح.

وكذلك ذكرُ المنسوبين إلى الأماكن إنما موضعه الكتب الموضوعة في معرفة الرجال، واستقصاؤه غير ممكن.

وقد كتبتُ منه في كتابي هذا ما لا بُدَّ منه ممّا يُحتاج إليه في معرفة الأسماء الواردة في الأخبار والآثار، وكتب المغازي والفتوح، وغير ذلك.

فقيدتُ ما قيده، وأهملتُ ما أهمله. وربما زدتُه بيانًا في بعض المواضع، أو أصلحتُ ما تنبهتُ عليه فيه من خللٍ وجدتُه في ذكره لبعض الأماكن، إمّا لأنه نقله عن غيرهِ على ذلك الوجه وهو خطأ، أو ظنّه كذلك.

ولم أقبلْ منه شرْطه الذي شرَطه، ولا التزمتُ حظرَه الذي حظرَه في اختصاره وتغييره، فإن ذلك شرطٌ غير لازم، ومظِنّة الفائدة تُقدّم.

وسميتُه: (مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع)".

وهو مطبوع متداول[2].

• • •

ثم جاء السيوطي فشرع في اختصار "معجم البلدان"، وذكَرَ هذا في كتابه "التحدُّث بنعمة الله"، وسمّاه:

"المُشرق والمُغرب في بلدان المَشرق والمَغرب".

وقال: "كُتِبَ منه كراريس"[3].

ثم ذكره في "فهرست مؤلفاتي" وسمّاه:

"مختصر معجم البلدان لياقوت"

وقال: "لم يتم"[4].

• • •

أقول:

وقد ذكر الحاج خليفة "معجمَ البلدان"، وذكرَ أنَّ البغدادي والسيوطي اختصراه، وقال عن مختصر السيوطي:

"أوله: (الحمد لله على ما تواتر من آلائه)"[5].

وقال:

"قال السيوطي في "مختصره": وبعد: فإنَّ الغرضَ مِنْ وضع."، ونَقَلَ سطورًا كثيرة[6].

وحين قرأتُ هذا الكلام قلتُ:

يَظهر أنَّ مختصر السيوطي قد نُسِخَ، وأن له نسخة رآها الحاج خليفة ونَقَلَ منها، ولكن هذا النص الذي نقله هو عينُ كلام البغدادي في مقدمته!

وقد بحثتُ في المكتبة السليمانية في إسطنبول، فوجدتُ في الفهرس الإلكتروني ذِكْرَ نسخةٍ معنونةٍ بـ (مراصد الاطلاع) منسوبةٍ إلى السيوطي[7]، وظهرَ لي أنها هي النسخة التي رآها الحاج خليفة، فأولُها: (الحمد لله على ما تواتر من آلائه.). وهذا ما أوردهُ هو أيضًا  - كما ذكرتُ قريبًا - [8].

وقد فحصتُها، فلم أرَ عليها اسمَ مؤلِّف، وقرأتُ المقدمةَ فإذا هي مقدمةُ البغدادي لكتابه السابق الذكر.

وظهرَ لي أنْ لا علاقة للسيوطي بها مِنْ قريبٍ ولا بعيدٍ.

وليس في المخطوط ما يدلُّ على أنه للسيوطي.

• • •

وهنا سؤالٌ وهو:

كيف نُسِبَ هذا المخطوط إلى السيوطي، وكيف حَصَلَ هذا اللبس؟

أقول:

يبدو أنَّ الحاج خليفة نظرَ في المقدمة  - وقد نقلَ منها سطورًا كما قلتُ - ورأى فيها التصريحَ بالاختصار، فانصرفَ ذهنُه إلى السيوطي حالًا، ونَحَلَ المخطوطَ بعنوانهِ له.

وقد ذكرَه في "الكشف" مرتين:

مرّة باسم "مراصد الاطلاع".

ومرّة حين الكلام على "معجم البلدان".

وصرَّحَ في الموضعين أنه لم يتمَّ اعتمادًا على "فهرس مؤلفات السيوطي" الذي كان تحت يده.

ولا بُدَّ من القول أنَّ الحاج خليفة كأنّه استدركَ على نفسه في الموضع الثاني، أو تشكّك فيما ذهبَ إليه، فقد قال في آخر كلامه:

"ثم رأيتُ في مجموعةٍ شيئًا منقولًا منه -أي المراصد - على أنه تأليفُ عبدالمؤمن بن عبدالحق الحنبلي"[9].

• • •

وقد تابع المُفهرسون وعددٌ من الباحثين الحاج خليفة، وسموا مختصرَ السيوطي "مراصد الاطلاع"، ولم يَلتفتوا إلى الاستدراكِ أو التشكيكِ الذي ختَمَ به كلامَه.

منهم الأستاذ أحمد الشرقاوي إقبال[10]، ويُؤخذ عليه كذلك أنه نَقَلَ ما نقله الحاج خليفة مِنْ مخطوط "مراصد الاطلاع" عنه ولم يَذكرْه، فأوهمَ أنه ينقلُ مِنْ نسخةٍ خطيةٍ لديه!

ومنهم مؤلفا "دليل مخطوطات السيوطي وأماكن وجودها".[11]

ومنهم الأستاذ إياد الطباع، وقد ذَكَرَ للسيوطي الكتابين: "مراصد الاطلاع"، و"المُشرق والمُغرب" برقمين واسمين، وقال عن "مراصد الاطلاع": "مخطوط"[12].

• • •

الخلاصة:

ألخِّصُ ما سبقَ في نقاط فأقول:

اختصرَ عبدُالمؤمن البغدادي "معجمَ البلدان" وسمّى مختصرَه: "مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع".

واختصرَه السيوطي وسمّاهُ أولًا: "المُشرق والمُغرب في بلدان المَشرق والمَغرب"، ثم ذكره باسم "مختصر معجم البلدان"، وهو مِنْ كتبه التي لم تتم.

رأى الحاج خليفة نسخةً من "مراصد الاطلاع" (في مكتبة مراد ملا) ليس عليها اسمُ مُؤلِّف، فظنّها هي مختصر السيوطي، فنَسبها إليه، ونحلَهُ العنوانَ أيضًا.

تابعه عددٌ من الباحثين في هذا الوهم، ولم ينتبهوا إلى أنَّ الكلام الذي نقله من المقدمة التي ظنّها للسيوطي هو كلامُ البغدادي في مقدمته.

ليس لمختصرِ السيوطي الناقصِ نسخةٌ معروفةٌ اليوم.

• • •

توصيات:

يُحْذَفُ هذا العنوان "مراصد الاطلاع" من قوائم مؤلفات السيوطي.

يُرْجَعُ إلى هذه النسخة من "مراصد الاطلاع" ويُستفاد منها في تحقيقه، فإنَّ محققه علي محمد البجاوي لم يَعرفْ سوى مخطوطة دارِ الكتب المصرية[13]، ومطبوعةِ ليدن[14].

• • •

وبعد: فالحمدلله على كشف هذا الخطأ الذي استمرَّ ما يَقربُ من (400) سنة.